السبت، يوليو 10، 2010

ورقة لمعلم بالأرياف


بقلم : عبد المجيد التجدادي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التربية و التعليم أشرف المهن و أعظمها شأنا ؛ لا تجد أمة من الأمم إلا و كان هذا الميدان ضمن أولوياتها و انشغالاتها الكبرى ، بل إن وجود أمة ما رهين بتربية و تعليم أبنائها على قيم و مبادئ معينة هي ما يُكوّن هذه الأمة و يجعل وجودها وجودا مشروعا . و المعلم مهما قالوا و مهما استصغروا و سخروا سليل الأنبياء في
الشرف . و المعلم الكيّس النبيه يرى نفسه دائما و أبدا في جهاد . قال فقهاؤنا رحمهم الله : »على كل مسلم أن يعتبر نفسه مرابطا على ثغر من ثغور الإسلام و المسلمين ..، فليحذر أن يؤتى الإسلام و المسلمون من ثغره « . حكمة بليغة قالها فقهاؤنا تستحق أن تكون جوهرة متقدة كامنة في قلب كل مسلم أينما كان موقعه ( مهنته ) حتى يعلم أنه في جهاد ، و أن مهنته ثغر من الثغور يرابط عليه ..، جوهرة كامنة ينبعث وهجها في نفسه كل حين تذكره و تحته على الثبات في ميدان الجهاد . الجهاد أنواع ( مواقع )، و كل واحد منا يجاهد في موقعه . و أنت أيها المعلم مجاهد مرابط : مجاهد جهادًا السلاحُ فيه العلم و الأمانة ، و الساحةُ فيه نفر من أمة محمد صلى الله عليه و سلم ، و العدوُّ فيه الأمية و الجهل و ذرياتهما . و المجاهد الحق يرجو و يدخر أجره الحق عند الله عز و جل ، إنه نعم المولى الذي عنده خير الجزاء …


و لعل المعلمين العاملين في المناطق النائية ، و المهمشة ، و القروية و أمثالها في جهاد عظيم الشأن لا يضاهيهم في أجره إلا من يضاهيهم في شدته و مشقته . المعلمون في الأرياف في موقع عسيرٌ جهده عظيمٌ أجره . هم هناك حيث تتكالب آفات الفقر و الجهل و التهميش على معظم أهل الريف تنهش في هالة الكرامة التي يستحقها أي إنسان حتى إنها لتكاد تنزعها عنهم نزعا ، و لتنظر أفواج المهاجرين ” الهاربين ” و اسأل عن مصير الكثيرين منهم في هوان الصفيح و التشرد و التسول ، إلخ . المعلمون هناك حيث ظروف العيش الصعبة ، و ظروف العمل الصعبة … المعلمون هناك في جهاد .


و الجهاد هناك أخي المعلم هو ذاك الإحساس القوي الجميل الدفاق الذي يعمر قلبك إعمارًا فتراك منتفضا من وهنك و غفلتك ، مشمرا على ساعد جِدك ، منتشلا نفسك من مستنقع ركودك و خمولك ، واهبا نفسك للوفاء بالمهمة العظيمة التي كلفت بها … من كلفك بهذه المهمة ؟!.. تذكر دائما أن الله عز و جل هو الذي يقدر ، و هو الذي قدّر لك أن تكون معلما ، فلتغنم غنيمتك من أجر هذا القدر الخير بالعمل الصالح . و إنك لفي جهاد ..، و إنك لفي جهاد .


و هذه لك أخي المعلم دررٌ ثمينة جمعتها ، من تجربة متواضعة خضتها ، لنفسي و لك أهديها . دررٌ ثمينة تزينت بها ، و أرجو منك أن تشاركني زينتها ؛ فإنها و الله لنِعم الزينة و لنِعم السيرة :


ــ أولها هي شعار الصبر و الجَلَد على الظروف الصعبة التي يعيشها المعلم في المناطق البدوية النائية و المعزولة ، و تعويد النفس على خشونتها..، هذا التعويد قادني إلى الكشف عن الوجه الآخر للحياة البدوية حيث روعة البساطة و الانسجام التام مع الطبيعة إلى حد جعلني أعشقها و أتضايق من غيرها ..، البادية فرصة ثمينة للتأمل و التفكر و التطهر بعيدا عن بهرجة الحضر و فتنته ؛.. أو كما عبر عن ذلك أحد الأصدقاء رقيقي الإحساس : إني كلما حللت بهذه القرية أشعر بنفسي طاهرة نقية و كذلك كل جوارحي ، و كلما عدت إلى المدينة أشعر بنفسي نتنة ملوثة و كذلك كل جوارحي ..؛


ــ و ثانيتها هي شعار المحبة الذي أكنه للجميع ، و خصوصا للتلاميذ و ما جاء بهم إليّ ؛ إن المحبة تخلق في النفس قوة عجيبة و شعورا جميلا يجعلانك تستسهل أي شيء لإسعاد أحبائك ، و عندما تصل حرارة محبتك إلى هؤلاء تكون قد فتحت قلوبهم و ألنتها فيبادلونك حبا بحب و تنفتح أفهامهم بحسب طاقتها و تشحذ هممهم بحسب استطاعتها ..؛ أن تحب الخير لغيرك كما تحبه لنفسك شرط من شروط الإيمان ؛


ــ و ثالثتها هي الجدية في العمل ، و البحث المستمر عن أحسن الطرق و المناهج ، و الحرص على عدم إضاعة الوقت ، و الحرص على دخول الفصل في الوقت المحدد ، و استغلال الوقت بشكل يندر فيه الوقت الضائع ، و تحاشي التجمعات و النقاشات التي لا يروق للبعض عقدها و فتحها إلا أثناء فترات الاستراحة الضيقة أو الحصص الدراسية حيث يكون المعلم و التلاميذ منشغلين بعملهم الدراسي !! و الترفع عن تفاهة التغيبات الصبيانية المفتعلة ، و التشدد في أن تضيع دقيقة أو حصة أو يوم من عمر السنة الدراسية من أولها إلى آخرها مهما بدت الظروف صعبة إلى حد كان يغيض بعض الزملاء المعلمين … و كل هذا مبعثه : الرغبة في الأجر و الثواب ، و الخشية من حمل أوزار أطفال سذج ، و محبتهم والإشفاق عليهم مهما بلغت حماقاتهم الطفولية مع الترفع عن استغلال سذاجتهم ، ثم تصديق قولة » كما تدين تدان « ..؛ و إنه من غشنا ليس منا ؛.. ليس منا !!..؛


ــ و رابعتها التواضع و التسامح و حسن النية في التعامل مع الآخرين و حسن الظن بهم جميعا . التواضع مع السكان و التلاميذ و الزملاء في العمل ، و إنه من تواضع لله رفعه ؛ و التسامح و التغاضي عن زلات الكثيرين تجاهي في غير مذلة تفهما لجهل البعض حينا أو لسوء فهم البعض الآخر حينا آخر و احتياطا من مصايد الشيطان دائما ؛ و تأكد أنك كلما زدت تواضعا و تسامحا زدت في نفوس الناس محبة و هيبة . أما حسن النية مع حسن الظن بالآخرين فحِصنٌ حصين يحمي من وساوس تأويل سلوكات الناس و تفسيرها تفسيرات سيئة مع ما يستتبعها من الشكوك و سوء الظن و الحقد و الكراهية و غيرها من الأحاسيس الخبيثة و الأخلاق الفاسدة التي تجعلك في حروب مجانية مع الجميع ؛ و لتنظر معي إلى من وضعوا أنفسهم في إطار حروب وهمية مع التلاميذ أو المعلمين أو الإدارة أو السكان بناء على أوهام خبيثة يظنونها و أحكام مسبقة يحملونها ، فترى مدار انشغالاتهم أو نقاشاتهم تتمركز حول تطورات تلك ” الحروب “ !!..، حسن الظن بالآخرين راحة للنفس و قربة للرب ؛ و لتتذكر معي ذاك الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه و سلم بأنه من أهل الجنة جزاء له على صفاء و نقاء قلبه من أي حقد و غل للآخرين ..؛


ــ و خامستها التّرفع عما في أيدي الناس و طلب ما في يد الله عز و جل ؛ أقضي حاجاتي بنفسي و أتجنب استعمال سلطتي أو هيبتي لقضائها على حساب الآخرين . أذكِّر نفسي دائما بأنني لا أعمل مجانا بل بأجرة أتقاضاها كل شهر … أمّا إن سألتني عن ضعف الأجرة و هزالتها فقد أوافقك ، لكن ” معركتي ” لتحسينها مع الجهات الرسمية التي وظفتني و ليس مع غيرها؛ بتعبير آخر أن التلاميذ و أولياءهم أعتبرهم أطرافا محايدة لا أقحمها في معركتي بل أتعامل معهم و كأنني أتقاضى أحسن الأجور ؛.. إنه لا تزر وازرة وزر أخرى ..، و إن مطلبي يرقى بكثير عن دريهمات فانيات ؛


ــ … و إجمالا ، أعتبر نفسي مسلما حاملا لرسالة نبيلة أسعى إلى تبليغها إلى كل الناس بكل ما تيسر لي مقالا و حالا ..؛ بتعبير آخر أسعى لأن أكون قدوة حسنة للتلاميذ و رفاقي في العمل و السكان المحليين . بعضهم يحبونني ــ و ربما يقتدون ــ فأحاول أن أكون عند حسن ظنهم بي ، و بعضهم يشككون في جدوى كل ما أفعل ــ إن لم أقل أنهم يسخرون أو يتغيظون ـــ فأحاول أن أؤكد لهم بثباتي على هذه السيرة إيمانا بالله عز و جل أنني على صواب ، و أنني لا أفعل المستحيل بل أقلّ ما يمكن . و إنني لأحاول أن آخذ لنفسي من كل خلقٍ سَنِي ، و أحاول أن أطرح عن نفسي كل خلقٍ دَنِي ..؛ و إنني لأسعى لأن أكون عند مستوى الشرف الذي أعطي لكل مسلم بأنه ضمن خير أمة أخرجت للناس : تأمر بالمعروف ، و تنهى عن المنكر و تؤمن بالله .


و ختاما ، ” عوّد أخي المعلم نفسك على الأخذ بالجدية منذ أول يوم عمل ” ، فإن النفس تسير على ما عودتها عليه..، و احذر من تعويدها التكاسل و الخمول و الإهمال ، فإن النفس تسير على ما عودتها عليه … عود أخي المعلم نفسك على ما قد يبدو لغيرك صعبا و شاقا أو مغالاة و مبالغة ؛ فإن النفس تسير على ما عودتها عليه ..، مقياسها في السهولة و الصعوبة هو ما عودتها أنت و ليس ما اعتاده الناس ؛ فإن النفس تسير على ما عودتها عليه…


اِصبر فقط في الأشهر الأولى ترى كل ما بعدها أمرا عاديا بل أقل ما يمكن أن يكون …


أخي المعلم ، لا تجعل سنوات عمرك القصير تضيع هباء منثورا ..؛ أخي المعلم ، لا تجعل معاناتك القاسية معانات مجانية تذهب هدرا لا تأخذ عليها ما تستحقه أنت من الشكر الجزيل و الأجر الجزيل ..؛ و المجاهد الحق يرجو و يدخر أجره الحق عند الله عز و جل ، إنه نعم المولى الذي عنده خير الجزاء . و إنك لفي جهاد ..، و إنك لفي جهاد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق