السبت، يوليو 10، 2010

مكننة التعليم


بقلم : عبد المجيد التجدادي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اهتز العالم على وقع انفجار الثورة الصناعية بأوربا في القرن التاسع عشر ؛ فضج بهدير المحركات الضخمة ، و سعي العمال في حركة دائبة لم يألفها أسلافهم ؛ و تسارعت التقانة في تطور مطرد ؛ و زادت شراهة المصانع للمواد الخام و زادت معها شراهة الاستهلاك ، و كانت الأسواق تغرق بالمنتجات الصناعية ذات المعايير
الموحدة حتى كانت تبلغ حد التخمة كما حدث في العقد الثاني من القرن العشرين … لقد غير العالم عداد سرعته بالمرة و دقق في وقته فبدأ يتحرك بالأجزاء من المئة و الثواني و الدقائق بدل الساعات و الأيام .



شدة التنافس الصناعي دفعت بأهله إلى ابتكار طرق جديدة في التصنيع نجد من بينها العمل المتسلسل ( Taylorisme ) على يد المهندس و الاقتصادي الأمريكي فريدريك ونسلو تايلور : كل عامل مكلف بحلقة معينة من مراحل إنتاج سلعة ما ، كل عامل له حركات خاصة يكررها طيلة مدة عمله ..، كآلة مبرمجة لتقوم بحركات معينة محددة في إطار مراحل الإنتاج …


و كان مما أثير حول سلبيات هذه الطريقة في العمل آنذاك أنها سخيفة تحط من كرامة الإنسان و ترهقه . و قد عبر عن ذلك في قالب ساخر الفكاهي الأمريكي تشارلي تشابلن ؛ فالعامل بغض النظر عن الوضعية البهلوانية التي يعيشها داخل المصنع بتكرار حركات محددة تعلق في لاوعيه لتصبح حركات لا إرادية مثلما ينبض قلبه ــ قد يكررها حتى أثناء نومه حسب سخرية الفكاهي ــ فإنه ــ أي العامل ــ مجرد رقم ، مجرد حلقة ..، قد يقضي عقودا من عمره في نفس المعمل يعيد نفس الحركات و لا يرى لعمله هو نتيجة ، و لا يتذوق لجهده هو حلاوة ، و لا يفهم لعمله هو معنى ..، فمن يستطيع أن ينفي عنه الشبه بالآلة ؟.. مجرد آلة ؟..


العامل التقليدي مثلا يبدأ في معالجة منتوجاته من خامتها إلى أن يراها قائمة مكتملة ..، و لَكَم يسعد الإنسان و هو يرى نفسه قد جعل من شيء بسيط غير ذي بال شيئا جديدا ذا ثمن ، و يزداد وعينا بسعادته عندما نعي كم يكابد ليصل إلى تلك النتيجة و كم يقطع من مراحل خاصة بمصاحبة الإتقان …


لا شك أن أهل سعار التنافس الاقتصادي يلهثون وراء الأرباح ، ويستحلون لأجل ذلك كل السبل الممكنة ، و يطرقون كل الأبواب حتى باب الشيطان … الربح هو الروح المقدسة التي تعمر قلوب المؤمنين بالرأسمالية المتوحشة ، أما الخسارة فذلك وحده الشيطان اللعين المستعاذ منه …


و الاقتصاد لا شك أنه عصب الحياة ..، دوره أشبه بدور الهيكل العظمي للإنسان و كذلك أهميته ؛ حضوره قيامٌ و غيابه انبطاحٌ … و قد استطاع المنطق الاقتصادي كما استطاعت الاعتبارات الاقتصادية أن تتصدر أولويات سياسة كل دولة ..، كما استطاع المنطق الاقتصادي أن يغزو بأفكاره التي تدعمها حساباته الدقيقة مختلف العلوم حتى أصبحت هذه الأخيرة تعج بالكثير من المفاهيم الاقتصادية .


و مجال التربية و التعليم لا شك أنه نال حظا وافرا من هذا الغزو ، فأصبحت ترى المربي المعلم يتحدث عن الربح ، و الخسارة ، و المردودية ، و الجودة ، و سوق الشغل ، إلخ . قد يكون الأمر عاديا على اعتبار أن العلوم تتلاقح فيما بينها و تغني بعضها بعضا ما دام أنها ترمي إلى خدمة الحياة الإنسانية في شموليتها . لكن الأمر لن يكون عاديا عندما يتحكم المنطق الاقتصادي الجاف في مهمة التربية و التعليم ، فتظل هذه المهمة المقدسة المشرفة رهينة و حبيسة الحسابات الاقتصادية الضيقة ..؛ و لتنظر مثالا على ذلك في الكارثة المسماة ” الخريطة المدرسية ” ، إنها منتهى السخف و الحماقة عند رجال التربية و التعليم ، و منتهى المنطق و الواقعية عند رجال اقتصاد …


نعود إلى عنواننا ” مكننة التعليم ” و مقدمتنا عن العمل المتسلسل لكي نقول أن الوضع الحالي في مؤسساتنا التعليمية بالمغرب اتجه ــ ربما بشكل غير مقصود ــ إلى أسلوب في العمل أشبه ما يكون بأسلوب تايلور ” العمل المتسلسل ” : فكل معلم يُكلف أو يتكلف بتدريس قسم معين : واحد في القسم الأول و آخر في القسم الثاني و هكذا ..؛ و العادة الجارية أن المعلم يظل قابعا في تدريس هذا القسم أو ذاك لسنوات عديدة قد تكون أحيانا هي كل سنوات حياته العملية في وضعية أشبه ما تكون بعامل واقف على حلقة من حلقات سلسلة الإنتاج … أَوَنحن بصدد إنتاج سلعة مصيرها النهائي مطرح نفايات أم نحن بصدد شيء آخر يرقى عن ذاك المصير المهين ؟ !..


إن الفصل الدراسي مجال مشحون بأجواء حارة من الأحاسيس و العواطف الإنسانية الرقيقة تجمع بين كائنات تنبض بالحياة : أطفال في مقتبل أعمارهم ينضحون حيوية و نشاطا و تجللهم البراءة مهما عِبنا عليهم ؛ و معلم تجلله صفتا التربية و التعليم مهما قلنا عنه ؛ و أسر تستأمن المعلم فلذات أكبادها تحاول ربط علاقة ودية مع المعلم يشوبها نوع من الاستعطاف ، الضمني غالبا الصريح أحيانا … ما يكاد الطفل يألف معلما حتى ينقل إلى معلم آخر ، و ما يكاد المعلم يألف تلامذة و يصل إلى نهاية البرنامج السنوي حتى يجد نفسه مرة أخرى يعيد من نفس نقطة الصفر التي بدأ منها مع أطفال آخرين . قد يكون الأمر طبيعيا بالنظر إلى أن لكل شيء بداية و نهاية ، لكن المدة المخصصة لذلك قصيرة جدا ، مجرد سنة واحدة ، حلقة واحدة تتكرر كل سنة ..، أمر يبعث على الملل و افتقاد لذة العمل ، مما قد يحيل إلى التهاون و ضعف الجودة .


مما قد نحسبه إيجابياتٍ للعمل المتسلسل في تعليمنا هاتين اليتيمتين :


ــ عدم إرهاق المعلم بإعداد التحاضير بشكل يومي يستهلك نهاره و ليله ، و يحرمه أوقاتا من الراحة اللازمة لاستئناف حصص جديدة بصدر رحب يحفظ التلاميذ من ويلات سرعة الغضب و يحفظه هو نفسه من ضغوط نفسية لا تقل خطورتها عن خطورة حوادث الشغل التي يتعرض لها غيره من المهنيين في الأنشطة الاقتصادية الأخرى ؛ فبطريقة العمل المتسلسل يحافظ المعلم على نفس التحاضير لعدة سنوات لا تنتهي إلا بتغيير المستوى الدراسي أو تغير المقررات ، و في ذلك فسحة راحة واسعة له ؛


ــ و اكتساب المعلم لتجربة كبيرة في المستوى الذي يدرسه ؛ هذه التجربة تتمثل في ضبطه الكامل ( بسبب التكرار فقط ) للبرنامج و مكوناته ، و تطويره للتقنيات الميسرة لبلوغ الأهداف التربوية .


لكن ما قيمة هاتين الميزتين إذا كانتا تهددان تعليمنا و تقودانه إلى نوع من الجمود ، و البرود ، و اللامبالاة و الإحباط ..، وضعف الجودة .


تمثل معي هذا الوضع مثلا : معلم مبتدئ يخطو الخطوة الأولى في مجال التربية و التعليم . أطفال يلجون فضاء المدرسة لأول مرة . يبدأ نوع من التآلف في التنامي ، و تتمتن الأواصر العاطفية بين التلميذ و المعلم كل ذلك في موازاة مع بناء تدريجي لبنة لبنة للمحصلة الدراسية للتلميذ … تبدأ السنة الدراسية بنوع من الصعوبة ، يدركها المعلمون ، عبارة عن مخاض شبه عسير يروم إلى تحقيق نوع من الانسجام و التآلف يسهل به إلى حد كبير تحقيق التواصل ما بين طرفي العملية التعليمية التعلمية . هذا الانسجام و التآلف الذي ما تكاد تتوطد أوصاله و تتعمق جذوره حتى تنقلع بقسوة و جفاء شديدين في آخر السنة ؛ ما يكاد هذا البناء الوجداني تكتمل بعض أجزائه حتى يرى طرفاه ( و خصوصا المعلم ) نفسيهما من جديد في نقطة الصفر … ثم في السنة الموالية يعيد المعلم العملية من جديد مع وجوه جديدة … حلقة مفرغة قصيرة يزداد الملل كلما زاد تكرارها ..، كمن غاصت قدماه في الرمال فلا يستطيع أن يتقدم بنفسه إلى الأمام ولو خطوة واحدة … و لتسأل عن جذوة حماس المعلمين في أوائل سنوات العمل كيف تخبوا بعد ذلك سريعا سريعا …


قد يكون اقتراحي له نفس الطابع ، فلو تكلف كل معلم بمسايرة تلامذته لمدة ست سنوات من السنة الأولى إلى السنة السادسة ( طيلة المرحلة الابتدائية ) ، فهناك بداية و نهاية … لكن يبدو لي أن الأمر لن يكون كذلك ؛ فمن يعد مسيرة عمله بالسنوات الكثيرة المتكررة مثل سابقاتها ، ليس كمن يعد مسيرة عمله بالأفواج التي تكفل بها ، كل فوج بست سنوات : أي أن عد المعلم لمدة عمله لن تكون ( مثلا ) أربعين سنة بل ستة أفواج فقط ..، و كل فوج يشهد بأنه ثمرة جهود فلان ، حوالي ستة أفواج تشهد له أو عليه ، و المجتمع يشهد له أو عليه ، و نفسه تشهد ..، و إحساس بالرضا أو الخجل و الندم … و بهذا تتحدد المسؤوليات و تتحقق المحاسبة المفتقدة …


الإنسان يحب ، و له الحق ، أن تنطبع بصماته على هذا الكون و تخلد إنجازاته بإسمه ، و يكره أن تصادر منه … أما عندما يرقى همه إلى أجر عمل لا ينقطع نفعه بموته فذلك مقام جليل يتشوف إليه الكثيرون .


الجمود و السكون يحثان على السبات و الخمول ، و التحرك و الترقي يحثان على اليقظة و الحيوية ..؛ و كذلك الذي يترقى بتلامذته من مستوى إلى مستوى آخر يتابع معهم سنة بعد أخرى المسار التعليمي التعلمي و يتابع نموهم الجسمي و الفكري و الوجداني، و تنمو في نفسه بالتوازي مع كل ذلك عواطف جميلة ترقى إلى عواطف الوالدين تجاه الأبناء..، و تنموا في أنفس التلاميذ بالتوازي مع كل ذلك عواطف جميلة ترقى إلى عواطف الأبناء تجاه الآباء … و هذه العواطف الجياشة الجميلة مكسب عظيم للتربية و التعليم ، إنها دافع عظيم يدفع من رُزقها إلى بذل المزيد من الجهد و استرخاص كل غال و نفيس من أجل هؤلاء التلاميذ الأبناء ..، و ذلك الجهد النابع من قلب محب لا شك تصل حرارته إلى قلوب الصبية فتنفتح قلوبهم و تلين فيبادلونه حبا بحب و تنفتح أفهامهم بحسب طاقتها و تشحذ هممهم بحسب استطاعتها .


قد تبدو هذه الكلمات محلقة بعيدا في سماء المثاليات ، لكن الذي يعرضها إبن الميدان ، مر بتجربة حلوة و مريرة في آن واحد في التعليم بالبادية ؛ فأما الحلاوة فقد تمتع بها في صحبة التلاميذ الأبناء ، و أما المرارة فقد ذاقها بفراقهم ..، و كان يظن أنه لو أتيحت له الفرصة لصحبتهم إلى المستوى السادس لكانوا أحسن بكثير مما بلغه من الأخبار عن شأنهم فيما بعد : لقد راح معظمهم ضحية للعمل المتسلسل … و الكلمات هنا إشارات يفهمها أهلها …


إن هذا الاقتراح الذي يقترحه صاحبنا باب يريد أن يفتحه لإعطاء نفَس جديد لمهمة التربية و التعليم يخلصها من اللامسؤولية و غياب المحاسبة التي يعاني من ويلاتها الكثير من الأطفال و أوليائهم ، و يخلصها من الجمود و الركود و البرود الذي تعانيه الكثير من الأقسام حتى أنها تكاد تجف من أدنى الأحاسيس الإنسانية النبيلة … اِقتراح يروم بعث الروح في جثة التربية و التعليم ..؛ و لتعلم أن الجسد الميت و الجسد الحي فيهما كل المقومات المادية للحياة ، و لكن الجسد الميت ذهبت عنه الروح .

هناك 5 تعليقات:

  1. طويل جدا و معقد يا أخي اختصر لم أستفد شيئا من الإيجابيات تبا

    ردحذف
  2. أنا صاحب التعليق السابق أعتذر من الكاتب أشد الإعتذار و أقول له أن ما كتبه مؤثر و رائع و أنا أسحب ما قلت و أرى أن الكاتب شخص مثقف و مبدع و أن ما كتبه ممتاز :)

    ردحذف
  3. ممتاز شكرا

    ردحذف