الثلاثاء، فبراير 07، 2012

إفلاس اللائكية في المجتمعات الإسلامية

بقلم : عبد المجيد التجدادي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تميز تاريخ الفكر و ما تولد عنه في العالم الإسلامي خلال القرون القليلة الماضية بميزة أساسية ألا و هي التدافع ما بين قديم أصيل و جديد وافد غريب . و كانت الانطلاقة لذلك التدافع هي تلك اللحظة التاريخية الرئيسة من تاريخ المنطقة الإسلامية في القرن التاسع عشر حيث وقف المسلمون على واقع رُقيّ و قوة الغرب
مقابل تخلفهم و هوانهم . لقد كانت حملة الأطماع الاستعمارية الغربية بمثابة الرجة القوية التي هزت المنطقة لكي يكتشف أهلها أنهم كانوا و لقرون عديدة غارقين في سبات عميق جعلهم يندحرون إلى خلفية ركب الحضارة الإنسانية ، و هو ركب أصبحت قيادته قلبا و قالبا قيادة أوربية غربية بامتياز .
القديم الأصيل يتمركز بالأساس حول المرجعية الإسلامية ، و قد اتخذ له في ظهوره أشكالا و تسميات مختلفة ؛ و الجديد الوافد الغريب يتمركز حول المرجعية الغربية ، و قد اتخذ له هو الآخر أشكال و تسميات مختلفة . و من المفيد الانتباه هنا إلى أن الطرفين معا كانا في حالة تماهي في فترة معينة ، بحيث أن الحركات الوطنية التي تبنت المقاومة كانت في رؤوسها و في خطاباتها تجمع ما بين الطرفين معا إلى حد يثير الالتباس ، و هذا ما قد نمثل له من خلال مفردات خطاب الحركات الوطنية التي تجمع ما بين الجهاد و النضال ، و الوطنية ، و ترويج مقولة "حب الأوطان من الإيمان" و نسبها إلى النبي صلى الله عليه و سلم ، و النفخ في مسألة الوطن إلى حد يظن السامع أن الوطنية قرينة الإسلام ... و عموما كانت الحركات الوطنية تجمع بين ثناياها بين الشيء و نقيضه : فهي في حربها الشرسة للتقاليد البالية و الرجعية و التخلف ، يلتبس عليها الهدف فيصبح المستهدف من تلك الحرب هو المرجعية الإسلامية نفسها مع العلم أن انطلاقة الحركات الوطنية في مجملها كانت انطلاقة سلفية بامتياز .
الالتباس الذي أشرنا إليه ستنقشع سحابته مباشرة بعد حصول دول المنطقة على الاستقلال ( أو حتى قبله ) ، بحيث إنه بدأت تتبلور و تتجلى الفروق الجوهرية بين دعاة المرجعية الإسلامية و دعاة المرجعية الغربية ، و يمكننا التمثيل لهذا بانشقاق المهدي بنبركة عن حركة علال الفاسي في المغرب ، و انشقاق بورقيبة عن حركة الثعالبي في تونس ... غير أن الأكيد من خلال تطور الأحداث أن السلطة استقرت بيد دعاة المرجعية الغربية فيما يسمى بالتيار العلماني أو اللائكي ( أو اللاديني ) ؛ و سُيّرت شؤون البلاد و العباد وفق تلك المرجعية بشكل فج من خلال تجربة تركيا الأتاتوركية و تونس البورقيبية ، أو بشكل موارب مراوغ من خلال تجارب باقي الدول الأخرى .
لقد وظف التيار اللائكي زمام السلطة الذي كان بين يديه لكي ينفُذ بأفكاره إلى واقع المجتمعات الإسلامية في مختلف مجالات الحياة ، و سخر لأجل ذلك النفاذ مختلف الأدوات التي أمكنه التحكم فيها . و كان الإعلام و التعليم و الآداب و الفنون في مقدمة تلك الأدوات : من خلال المذياع و التلفاز ، و المدارس ، و الأدب و المسرح و السينما ... و كان التيار اللائكي في عملية التمكين له تلك يعمل على واجهتين : الأولى تتمثل في ضرب المرجعية الإسلامية من خلال الضرب في رموزها بما يشوه سمعتها و يجعلها محل تحقير و رفض ، أو على الأقل محل حصار و تهميش ؛ و الثانية تتمثل في تطبيع الناس مع السلوكات التي تتنافى و تلك المرجعية و تؤسس للحياة اللائكية : و قد ساهم في هذا العمل على مدى العقود الماضية جمهور الإعلاميين ، و المعلمين ، و الأدباء و الفنانين . عقود عمل فيها هؤلاء ( من حيث يعلمون أو لا يعلمون ) على محاولة بناء المرجعية اللائكية على حساب ما يبدو هدمه من المرجعية الإسلامية .
لقد أنتجت الصناعة اللائكية أفرادا يعانون من الفصام في تكوين شخصياتهم ، بحيث أن حالة الالتباس التي أشرنا إليها آنفا تتكرر مرة أخرى في حياة الأفراد ، فتتضارب مواقفهم ما بين الشيء و نقيضه تماما . و يمكن أن نمثل لهذا بأفراد عاديين تراهم يحرصون على ممارسة شعائر دينية معينة ثم هم في نفس الوقت يقترفون نهارا جهارا سلوكات ممنوعة بصريح الدين ..؛ أو حتى بالشخصيات العامة : فالرئيس العراقي صدام حسين بمرجعيته القومية اللائكية المعروفة يدّعي "الجهاد" بعد غزوه للكويت ، و يرفع لواء التكبير في العَلم العراقي ، و يحمل معه القرآن الكريم أثناء محاكماته ..، و يتكرر مشهد حمل القرآن الكريم مع نجل حسني مبارك ( بتوجهه اللائكي و بعدائه للتيار الإسلامي ) أثناء محاكمته ...
لقد كانت المرجعية الإسلامية أكبر الأهداف العدائية للتيار اللائكي طوال عقود حكمه منذ خروج الاستعمار ، غير أنه و رغم كل معاول الهدم التي اشتغل بها ، و رغم الإصابات التي أوقعها بقشرة تلك المرجعية ، فإن اللب بقي سليما معافى إلا في القليل النادر المهمل من الناس : و هذا ما تبين بعد تجربة تركيا الأتاتوركية اللائكية الفجة كيف انقلبت عليه لصالح المرجعية الإسلامية من خلال حزب العدالة و التنمية ، و بعد تجربة تونس البورقيبية و البنعلية اللائكية الفجة كيف انقلبت لصالح المرجعية الإسلامية من خلال حركة النهضة ..، و مصر و المغرب و الكويت ... و كل هذه التجارب و غيرها من التجارب المرتقبة تبين بجلاء إفلاس التجربة اللائكية بالمجتمعات الإسلامية ، و أنها مجتمعات لا يمكنها بالمرة أن تجافي الدين و تعاكس مساره ..، و أن ما قد يطرأ عليها من مثل ما وقع بها في العهد اللائكي ليس سوى فترة طارئة سرعان ما تنجلي و يعود الناس إلى مأواهم الآمن الذي لا يثقون و لا يعتقدون بغيره .
إن المجتمعات الإسلامية من خلال ما كشف عنه ما يعرف الآن بالربيع العربي تؤمن و تعتقد اعتقادا جازما بأن "الإسلام هو الحل" . و بالتالي فإن أي توجه يريد إقصاء الدين من حياة الناس مآله الفشل كما فشل هؤلاء السابقون ؛ و في ذلك عبرة لكل حملة لواء اللائكية الآن القابضون عليها و العاضون عليها بالنواجد ، و هم مدعوون بهذه المناسبة إلى التصالح مع معتقدات المجتمعات الإسلامية و الاستسلام لإرادتها و قناعاتها التي لم تستطع عقود الاستبداد تحريفها : فالناس في المجمل يريدون من يسير بهم وفق منهج الإسلام ، و يزيح عنهم نيران أحاسيس الذنب التي تلاحقهم إن هم ساروا وفق منهج يعارضه ، أو نهم يريدون بتعبير آخر من يداويهم من ذلك الفصام الذي كانوا يعيشونه ما بين متطلبات دينهم الذي يعتقدونه اعتقادا راسخا و متطلبات واقعهم المفروض عليهم و المجافي لعقيدتهم .
غير أنه و بالمقابل ، نختم بالقول أن ذلك التدافع الذي تم ما بين دعاة المرجعية الإسلامية و دعاة المرجعية الغربية كان في المجمل ( على الرغم من الشوائب التي شابته ) إيجابيا لصالح المرجعية الإسلامية ، حيث إنه كان فرصة للتمحيص و المراجعة ، و لتنقية المرجعية الإسلامية من الكثير الكثير مما علق بها من الشوائب الطارئة التي كان يُعتقد إلى عهد قريب أنها من صميم الدين و ما هي من الدين في شيء ... و بهذا فإن التيار اللائكي و التيار الإسلامي إنما هما مولودان شقيقان من رحم معاناة المجتمعات الإسلامية : الاستبداد و الجهل و الفقر و التخلف و الهوان بين الأمم .. كلها أعداء مشتركة ... و ننتظر اليوم الذي يتآلف فيه الجميع بعد أن يعترف كل طرف بفضل الآخر قلّ الفضل أو كثر .. لكي ننهض و نلتحق بمقدمة الحضارة الإنسانية .. و قيادتها من جديد لما فيه خير الإنسانية جميعا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق